هموم كتابة و هوان لغتنا


لا يختلف اثنان على أن اللغة هي المحرك الأساسي لآليات النص مهما كان ، ولا يعتلي هذا الأخير منزلة النص الا اذا كانت العبارات راقية ودقيقة ، تعبر من مواقعها عن المقاصد والمعاني ، ولا وجود لمركبة ترفع من قيمة الأسلوب الا تنامي اللغة مع تنامي الحدث باختيار الجواهر من كنوز اللغة وما يتلاحم ووجهة النص في تبليغ الرسالة . لا شك أن ثورة التوليد في بعض اللغات جاءت عندما تجاوز التفكير معاني كلماتها ، هذا الذي تستغني عنه لغتنا العربية بما تشمله ، وباستعدادها الفطري لكل تعبير، والدليل على ذلك ، ها هي ذي تساير كل المدارس الأدبية الفكرية والفلسفية ، واستطاعت وبكل جدارة أن تنقل الينا كل الثقافات بأمانة واخلاص ، بل تجاوز الأدباء العرب في تحميلهم لثقافة الغير وأصبحوا يضاهون في طروحاتهم ما ابتكره الغرب الى درجة الذوبان في الآخر ، وبمجرد ما تترجم النص العربي الى اللغة الغربية حتى تشك في عروبة الكاتب ، فلا تستطيع أن تمس أي ركيزة لتبرير هذا الذوبان فان فعلت سقط البناء على رأسك .. فزادت هذه الممارسة في قيمة الأدب الغربي وتسببت في ابتذال اللغة العربية وتمييعها بل وتدجينها بانحطاط النص الى مستوى لغة الشارع ، بل كتب عمالقة الأدب العربي أعمالا بلهجاتهم العامية ، طبعا ، كانت حجتهم البسيط الممتنع لايصال رسائلهم الى السواد الأعظم ، وراء هذه الممارسة نية حسنة حقا وأطماع تجارية لا شك فيها ، بالمفهوم الواسع أصبحنا ننتج الأدب الاستهلاكي من حيث التركيبة اللغوية (أنا لا أقصد بهذا الأهداف والقناعات) . فهل غيرت هذه الكتابات من الوضع الثقافي والحضاري المزري الذي تعيشه الأمة العربية بصفتها القاطرة الرئيسية ومن بعدها الأمة الاسلامية ؟ ؟ .. بالطبع لا ، والواقع يشهد على ذلك .
أنا لا أدعي اطلاعا واسعا ومعرفة عميقة في هذا المجال ، الا أنني حتى الآن أسير ضمير منعني أن أضحي باللغة العربية وما لها من مميزات وجواهر العبارات وأساليب التواصل من أجل تبليغ رسالة أنا قادر على تبليغها بلغة الأسواق في حلقات الأسواق ، وبلغة المقاهي في المقاهي ، ولكل مقال مقام . أقول في نفسي ، اذا كنت أحمل فكرا قادرا على التحدي فمع الفكر الآخر أقيم الحوار ، والتبسيط تضمنه وسائل أخرى بشرية ومادية ، وبطرق مشرفة أكثر هكذا من القمة الى القاعدة( تنازليا )ومن القاعدة الى القمة (تصاعديا) ، فيرتقي المجتمع ويدخل الجميع في نقاش مسؤول وواع ، كل حسب مستواه .
الرب سبحانه وتعالى لما خاطب البشر ، دون تمييز ، خاطبهم بأساليب راقية اكراما لهم وتقديرا ، وعلى هذا الانسان أن يترفع عن الدنايا في خطابه الثقافي والخلقي حتى يتميز بهذا العقل عن ما يمارسه وغيره من عبثية تحركها الغريزة .
يؤلمني جدا عندما أقرأ لأقلام عربية ، من المفروض أن تخاطب مجتمعاتنا من أعالي المنصات ، تدعوهم للتداول والنقاش والاثراء ، تتبنى الخطاب الدنيء بحجج واهية ...
حقيقة أن المدارس الأدبية المعتمدة في الوطن العربي كلها من الغرب ، غلقت علينا في اطار مسيج ومكهرب، أفتخر باطلاعي على الأدب الغربي ، وقد ارتويت من ينابيعه ، وتذوقته كما يتذوق العربيد الخمرة ، وأحب أن أقرأ لهم بشغف وبلغتهم (الفرنسية ) ولكن لا أسمح لنفسي بتوظيف اللغة العربية كخادمة ذليلة ، مذمومة تحت رحمتهم ، باسم التفتح والانسانية أو غيرها من الدعوات المشبوهة ، وديمقراطيتهم أكبر دليل على مخادعتنا .
كم أتمنى أن تضاهي القصة عندنا الشعر وتحادي الرواية ، حيث تجتمع لذة القراءة ومتعة السياق ، حيث تجتمع فنيات الخطاب وتساير تنامي الحدث ، على ايقاع سمفونية بلاغية رائعة تطرب النفس ، وتغذي بمنطقها الفلسفي العقل .. قضية عادلة بلغة راقية ومنطق سليم قابل لكل نقاش معتدل .
كم أتمنى أن يتمرد الكاتب العربي ويبدع ما يميزه عن غيره ليشارك في هذا الفسيفساء الأدبي والفكري بلون خاص يصبغ أعماله ... أم هي العربية عقمت ؟ .
ان اعتمادنا على الأدب الاستهلاكي الجاهز لن يرفع من قيمة اللغة الى المكانة التي نأمل ، ويعود المتلقي على البلع دون هضم ، ونراهن على الكم عوض الكيف ، فيتقاعس الانسان العربي بموت دوافع الجد والكد والبحث والاستنباط ، وتموت خلايا اللغة ، وعلى وجودنا البقية في حياة الغير .
هكذا ضاعت رسائل الأدباء العرب وتفرقنا ، واتهمنا بعضنا بعضا ، وشردنا بعضنا بعضا ، وتفككت وحدة نخبنا ، وكثر الهرج ، انها مخلفات سوء استعمال الكلمة وسوء توظيفها .
اخفاقات في توحيد الخطاب العربي على كل المستويات ، وشرخ كبير بين الشعوب والنخب والحكام أنتجه سوء تسيير اللغة التي بدورها أنتجت المهندس الفاشل ، والفبزيائي الفاشل ، والكيميائي الفاشل ، والسياسي الفاشل ، انها وبكل بساطة مخلفات ذلك الأديب الذي اعتمد في نصوصه على الخطاب (المجاني) لايصال فكرته الى (الأكثر) .
مستحيل يا سيدي أن تضع رجلا في أعلى السلم والرجل الأخرى في أسفله ..
مختار سعيدي