التصوير الساخر في القرآن ومشاهد العقاب ..


حين يعرض القرآن الكريم لمشاهد العقاب الذي يصطليه أعداء الله ، لا يكتفي بعرض العقاب الحسي ،

وإنما يبرز أيضًا جانب العقاب النفسي ؛
ليكون العقاب كاملا ، جسديًا ونفسيًا ؛ وليكون الزجر به والتخويف منه أبلغ في النفوس ..

ولكن الملحوظ أن القرآن إنما يهتم بإبراز العقاب النفسي في مجال الحديث عن السادة وعليَّة القوم ، فهؤلاء هم الذين يؤلمهم العقاب النفسي كالإهانة والإذلال أشدُّ مما يؤلم عامة الناس .


والفرسان والشجعان من الناس في كلِّ بيئة لا يحذرون الموت على أية صورة ، وإنما يحذرون الهوان والذل ،.

كما يقول الشاعر العربي القديم :
نعرض للطعان إذا التقينا * * * وجوهًا لا تعرض للسباب

فالتعرض للموت بيد الأعداء والأقران ليس مما تحذره نفوسهم فضلا عن أن تخافه ، ولهم في ذلك مأثورات وأشعار لا تكاد تحصى .


ومن ذلك قول عروة بن الورد :
فإن فاز سهم المنيّة لم أكن * * * جزوعًا ، وهل عن ذاك من متأخرِ ؟
ولذلك كانت مجالس القضاء العرفي الذي يتمثل في الأشخاص الذين يختارونهم للحكم فيما يحدث بين الأفراد والجماعات من تنازع أو عدوان ، كانت هذه المجالس تلتزم أن تكون عقوبة العدوان بالإهانة أشد من عقوبة العدوان على البدن . فعقوبة الصفع أو الشتم المهين مثلا أشد من عقوبة الضرب مهما كان مؤلمًا .
على أساس أن الإهانة أشد نيلا وإيلامًا للنفس الكريمة من الألم الجسدي مهما يبلغ .

القرآن يتجاوز مرحلة الإذلال لأعداء الله بمرحلة أخرى في الإيلام النفسي ، وهي السخرية منهم ، فإن الإذلال مهين مؤلم للنفوس الكريمة . ولكن له درجات وألوان .. قد يكون الإذلال أحيانًا بمجرد إشعار الخصم بالعجز . أو بإرغامه على تقبل ما لا يريده أو نحو ذلك . ولكن أسلوب القرآن يزيد عن ذلك أن يصب على أعدائه سخرية مرة وهم يصطلون العذاب البدني ، أو وهم قادمون عليه . حتى لا يبقى فيهم شيء غير معذب من أجسادهم أو نفوسهم معًا .

والقرآن الكريم حافل بمثل هذه الصور مثل قوله تعالى :

- ( هذا نزلهم يوم الدين )
اللغة :( النزل ) في لغة العرب ..

هو ما يعدّ للضيوف أو النازلين بصفة عامة ، وهو ما يسمى اليوم بـ الفندق ، وما زالت بعض البلاد العربية تسمي الفندق فيها نزلا .



السياق :

وسياق الحديث فيما سبق هذه الصورة يبرز أنه خاص بطبقة السادة والأغنياء وقادة المجتمع بصفة عامة ، إما بمناصبهم أو بأموالهم ، أو بجاههم وأحسابهم .


فهؤلاء كما سبقت الإشارة آنفًا الذين ينال من نفوسهم الذل والهوان ، وهم في الوقت نفسه العقبة الكؤود أمام الإسلام في انتشاره ، وأمام الراغبين إليه .


والقرآن يشير إلى هذه الطبقة بالترف في قوله تعالى في سياق هذه الصورة :
" إنهم كانوا قبل ذلك مترفين " .


فهم إذن طبقة خاصة في المجتمع ؛ لأن المترفين لا يكونون في العادة من عامة الناس ، ولأن الترف إنما يكون من غنى واسع ، والغنى وسيلة تميُّز وعلو في كل مجتمع .


وجريمة هؤلاء المترفين تكذيبهم بالدين ، وبالبعث بعد الموت ، بل إنهم يصوغون تكذيبهم هذا في لون من السخرية

حيث يقولون :
" إئذا متنا وكنا عظامًا أئنا لمبعوثون "

ففي أسلوبهم نغمة واضحة السخرية ، ولو لم يقصدوا إلى السخرية من البعث لقالوا مثلا :

لن نبعث بعد أن نكون ترابًا وعظامًا نحن وآباؤنا ..


ولكنهم يصوغون إنكارهم وتكذيبهم في هذا الاستفهام الساخر " أئذا متنا ... " ثم ( إئنا لمبعوثون ).. ؟







................................
التصوير الساخر في القرآن الكريم
د/ عبد الحليم حفني