قال النبي صلى الله عليه وسلم ( مثل القائم على حدود1 الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا 2على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) أخرجه البخاري في تسلسل 2493 رياض الصالحين ص 101




1ـ حدود الله : وهي ما نهى الله عنه ، والحد في اللغة المنع والفصل بين الشيئين
2 ـ استهموا :اقترعوا ، والسهام هي التي يضرب بها في الميسر وهي القداح ، ثم اطلق على ما يأخذ الفائز في الميسر ، ثم تطور المعنى حتى صار كل نصيب يعد سهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ

مستويات الصورة الفنية


تبدأ الصورة الفنية في الحديث النبوي الشريف معتمدة على مشبه هو ركنان أساسيان تنفتح الصورة عليهما في تشبيه استوفى أركانههو المشبه وأداة التشبيه ( كمثل ) ثم المشبه به الصورة
لابل ان المشبه هو نفسه صورة فنية لما فيه من توازي صرفي ، وطباق ( القائم ) في حدود الله و ( الواقع ) فيها ، وفي هذه الجملة تنصرف المخيلة الى صورتين صورة مجموعة تتحرك في طريق تراقب نفسها من أن تحيد عنه ( القائم على حدود لله ) وصورة تعدت حدود الطريق فوقعت خارج حدوده ( الواقع فيها ) وقد زين لهذه المجموعة أنها ستحقق فيه ما ترغب وهي تعلم ان هذا الحد هو خارج حدود الشريعة لكنها تغرق فيه وهي في هذه الحالة ستهلك وتزين الأذى والهلاك لغيرها ( القائم على حدود الله صورة فنية يسميها البلاغيون استعارة مكنية 1 شبهت فيها المحرمات بالمنخفض من الأرض وهي محاطة بحدود وحولها من يحرسها ويمنع الناس من الوقوع فيها فحذف المشبه به وبقيت لازمة من لوازمه وهي الحدود )
وإذن فالصورة ركناها (القائم) و (حدود الله) وجاء القائم معرفة وحدود الله معرفة لأن ما نهى الله عنه معروف وما أمر به معروف أيضا واذا كان المشبه هاتين المفردتين فان الصورة شاملة للحياة كلها لا بل هي الشريعة الاسلامية بطبيعتها التي وجد الانسان فيها ليعبد الله سبحانه ويعمر هذه الأرض وفق الحدود التي وضعها فالبشر هم ( قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ) وهذا رمز فالذين في أعلاها هم الذين اتبعوا الشريعة ونهوا ما نهى الله عنه والذين في أسفلها هم الذين يحاولون الانحراف عما أمر به الله سبحانه وأعلاها وأسفلها طباق يعمق الصورة ليكون رمزا للصراع بين الخير والشر .
إن إحساس من هم أسفل السفينة في حركتهم نحو الأعلى على من فوقها يوحي ان الذين في الأسفل يتكاسلون عن جلب الماء وهو اشارة إلى ان هؤلاء يستثقلون الالتزام بما نهى الله عنه وأمر به ولتكاسلهم كانت النية في خرق السفينة من الأسفل؛ وللمتلقي ان يتامل الصورة بين القائم في حدود الله وهذه الصورة الفنية ثم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ( من في أعلاها ) وهي اشارة لمن أخذ منزلته باتباع ما أمر الله ونهى عنه وهم من بيدهم نجاة المجتمع وعيشه بسلام وعلى هؤلاء مسؤولية منع من هم في أسفلها أن يحدثوا خرقا في السفينة لأن تركهم سيهلك المجتمع كله . وقوله صلى عليه وسلم ( لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ) هو أسلوب شرط ذكر فعل الشرط فيه وحذف جوابه وحذف الجواب كان أبلغ وأوضح من ذكره وتقديره ( لكان خيرا لنا ) وحذفه هو تعبير عن الحالة النفسية التي عليها من هم في أسفل السفينة فذكر فعل الشرط وعدم إطالتهم في الحديث دفع الى ترك الجواب لما تعتمل به أنفسهم من نوازع فتركوا الجواب ليروا أهو خيرا لهم ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم ( وان أخذوا على أيديهم نجوا ) هو كناية عن دعوة من في أعلى السفينة على استخدام الحزم والشدة في منعهم عن خرق السفينة
وإذا كنت ذكرت مستوى للصورة الفنية في الحديث الشريف فان هناك مستوى آخر للصورة تتركها ايحاءات الصورة السابقة في المعاني التي ذكرتها ؛ فالانسان نفسه تتصارع في داخله نوازع الخير والشر ( نوازع عليا ونوازع سفلى ) ونوازع الخير هي من هم في أعلى السفينة ونوازع الشر هي من هم في أسفلها ويشير صلى الله عليه وسلم من طرف خفي إلى ان على الاتسان أن يقوي في ذاته نوازع الخير لتكون لديها القدرة لمواجهة نوازع الشر في داخله وكبحها وللمتلقي أن يرى ان هذه الصورة على الرغم من انها مشهد يتخلله الصراع وأحد أدواته المنبثقة من عمق الصورة الطباق والمقابلة في ( فان تركوهم هلكوا جميعا ) وفي ( وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) انما جاء ليستوعب الحياة كلها من خلال هذه الصورة الموجزة


1ـ الاستعارة المكنية هي حذف لفظ المشبه به والرمز له بشيء من لوازمه وبقاء المشبه / علم البيان د. بدوي طبانة ص178