روابط قد تهمك :
اخبار التعليم | سلم رواتب المعلمين | المناهج التعليمية | مكتبة التحاضير والعروض | اسعار السيارات | حراج السيارات | عروض السيارات


صفحة 4 من 12 الأولىالأولى ... 23456 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 25 إلى 32 من 92

الموضوع: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد

  1. #25
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد



    سالم مولى أبي حذيفة - بل نعم حامل القرآن

    أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال:

    " خذوا القرآن من أربعة:
    عبدالله بن مسعود..
    وسالم مولى أبي حذيفة..
    وأبيّ بن كعب..
    ومعاذ بن جبل.."
    ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأبيّ،ومعاذ..
    فمن هذا الصحابي الرابع الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟
    انه سالم، مولى أبي حذيفة..

    كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها..
    ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة..
    وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة.
    ذلك أنه كان رقيقا وأعتق..
    وآمن باله ايمانا مبكرا..
    وأخذ مكانه بين السابقين الأولين..
    وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش..
    وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة..
    وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات، وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها..
    وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني..
    وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه..

    فـ زيد بن حارثة مثل، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب، فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة..
    ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة توكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!!
    ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا..
    فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخزوانهم في الله وفي الاسلام..
    ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!!
    وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقسقا، لا يعرف أبوه..
    لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!!
    تلك عظمة الاسلام الفريدة..
    بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!!
    **

    لقد آمن سالم ايمان الصادقين..
    وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين..
    فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار..
    لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم...
    أساس تلخصه الآية الجليلة:
    " ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!!
    والحديث الشريف:
    " ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى"..
    و" ليس لابن البضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى"..
    **

    في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا..
    بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!!
    وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!!
    أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء..
    وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!!
    وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له:
    " الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!!
    وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه:
    " سالم من الصالحين"..!!
    ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة..
    كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد..
    كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق.
    وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا..
    انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها..
    ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها..
    **

    بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين..
    وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد..
    وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء..
    هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول:
    " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!!
    والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه، ويقول:
    " ان في سيف خالد رهقا"..
    وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب..
    ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت..

    وخالد البطل القائد، والبطل العظيم في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة..
    لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا.
    لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!!
    ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب..
    ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض، أو سهوه، بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول:
    " الدين النصيحة..
    الدين النصيحة..
    الدين النصيحة".
    **

    ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد..
    سأل عليه السلام قائلا:
    " هل أنكر عليه أحد"..؟؟
    ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!!
    وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له:
    " نعم.. راجعه سالم وعارضه"..
    وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين..
    لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة..
    وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا..
    **

    وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى..
    وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين..
    وجاء يوم اليمامة..
    وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها..
    وخرج المسلمون للقتال..
    وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة..
    وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته..
    وجمعهم خالد بن الوليد من جديد..
    وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة..
    وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة..
    وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!!
    كان أبو حذيفة ينادي:
    " يا أهل القرآن..
    زينوا القرآن بأعمالكم".
    وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب.
    وكان سالم يصيح:
    " بئس حامل القرآن أنا..
    لو هوجم المسلمون من قبلي"..!!
    حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!!
    وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام..
    وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب...
    ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة:

    ( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)...
    ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!!
    **

    وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين..
    وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير..
    وسألهم:
    ما فعل أبو حذيفة..؟؟
    قالوا: استشهد..
    قال: فأضجعوني الى جواره..
    قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!!
    وابتسم ابتسامته الأخيرة..
    ولم يعد يتكلم..!!
    لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!!
    معا أسلما..
    ومعا عاشا..
    ومعا استشهدا..
    يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!!
    وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت:
    " لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!!



  2. #26
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد

    عبدالله بن عباس - حبر هذه الأمة

    يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.

    لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة.
    وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.
    **

    هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
    ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه.
    لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:
    " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
    ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة.
    وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.

    فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهدمجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..
    وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..
    هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه..
    وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..
    يقول عن نفسه:
    " ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
    ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:
    " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:
    هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير.
    فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟
    فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!
    هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء.
    وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!
    سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟
    فأجاب:
    " بلسام سؤل..
    وقلب عقول"..
    فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..
    ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:
    " ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس..
    ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله"..
    وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:
    " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..
    ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..
    ولا أفقه في رأي منه..
    ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه..
    ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..
    وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!!
    **

    ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال:
    " انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..
    آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث..
    وبحسن الاستماع اذا حدّث..
    وبأيسر الأمرين اذا خولف..
    وتارك المراء..
    ومصادقة اللئام..
    وما يعتذر منه"..!!
    **

    وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه..
    حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:
    " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر..
    رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..
    فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد..
    ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.
    ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..
    فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم..
    ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا..
    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم..
    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر..
    فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!!

    وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة..
    كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..
    ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..
    ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..
    بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..
    ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..
    سألهم ابن عباس:
    " ماذا تنقمون من عليّ..؟"
    قالوا:
    " ننتقم منه ثلاثا:
    أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله..
    والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!
    والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.."
    وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:
    " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟
    ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم..
    فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!
    وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:
    " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟
    وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..
    وانتقل ابن عباس الى الثالثة:
    " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..
    فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!
    واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!!
    **

    ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.
    فهو في جوده وسخائه امام وعلم..
    انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!
    ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:
    " ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!!
    وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.
    وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..
    يقول عن نفسه:
    " اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..
    واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!
    واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"
    **

    وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..
    فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه.
    **

    وهو الى جانب هذا شجاع، أمين، حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته، وسعة حيلته.
    وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..
    عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا، ويزيد، تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده، أقضّه الحزن عليه، ولزم داره.
    وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم، لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم، والتفاهم واللين..
    صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة، تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.
    **

    وعاش ابن عباس يمأ دنباه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه..
    وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان.
    وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:
    ( يا أيتها النفس المطمئنة
    ارجعي الى ربك راضية مرضية
    فادخلي في عبادي
    وادخلي جنتي)

  3. #27
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد

    عبدالله بن عباس - حبر هذه الأمة

    يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.

    لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة.
    وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.
    **

    هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
    ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه.
    لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:
    " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
    ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة.
    وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.

    فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهدمجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..
    وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..
    هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه..
    وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..
    يقول عن نفسه:
    " ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
    ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:
    " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:
    هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير.
    فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟
    فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!
    هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء.
    وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!
    سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟
    فأجاب:
    " بلسام سؤل..
    وقلب عقول"..
    فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..
    ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:
    " ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس..
    ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله"..
    وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:
    " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..
    ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..
    ولا أفقه في رأي منه..
    ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه..
    ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..
    وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!!
    **

    ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال:
    " انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..
    آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث..
    وبحسن الاستماع اذا حدّث..
    وبأيسر الأمرين اذا خولف..
    وتارك المراء..
    ومصادقة اللئام..
    وما يعتذر منه"..!!
    **

    وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه..
    حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:
    " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر..
    رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..
    فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد..
    ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.
    ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..
    فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم..
    ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا..
    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم..
    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر..
    فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!!

    وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة..
    كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..
    ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..
    ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..
    بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..
    ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..
    سألهم ابن عباس:
    " ماذا تنقمون من عليّ..؟"
    قالوا:
    " ننتقم منه ثلاثا:
    أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله..
    والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!
    والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.."
    وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:
    " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟
    ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم..
    فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!
    وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:
    " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟
    وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..
    وانتقل ابن عباس الى الثالثة:
    " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..
    فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!
    واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!!
    **

    ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.
    فهو في جوده وسخائه امام وعلم..
    انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!
    ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:
    " ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!!
    وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.
    وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..
    يقول عن نفسه:
    " اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..
    واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!
    واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"
    **

    وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..
    فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه.
    **

    وهو الى جانب هذا شجاع، أمين، حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته، وسعة حيلته.
    وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..
    عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا، ويزيد، تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده، أقضّه الحزن عليه، ولزم داره.
    وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم، لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم، والتفاهم واللين..
    صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة، تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.
    **

    وعاش ابن عباس يمأ دنباه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه..
    وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان.
    وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:
    ( يا أيتها النفس المطمئنة
    ارجعي الى ربك راضية مرضية
    فادخلي في عبادي
    وادخلي جنتي)

  4. #28
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد

    سعد بن معاذ - هنيئا لك يا أبا عمرو

    في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم..

    وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
    وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله..

    **

    انظروا..
    أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟؟
    انه هو..
    يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة بيرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والاسلام..
    أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!!
    **

    ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية..
    ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه..
    وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    وباسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين..!!
    أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة..
    وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!!
    **

    وتجيء غزوة بدر..
    ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر.
    وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول:
    " أشيروا عليّ أيها الناس.."
    ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول:
    " يا رسول الله..
    لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا..
    فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك..
    ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..
    انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء..
    ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك...
    فسر بنا على بركة الله"...
    **

    أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين:
    " سيروا وأبشروا، فان الله وعدني احدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر الى مصرع القوم"..
    وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ..
    لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير..
    **

    وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..
    وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة، من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة..
    فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته، ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة الى مكة محرّضين قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين..
    واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو..
    وفي طريقهم وهم راجعون الى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش..
    وضعت خطة الحرب، ووظعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير..
    واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم..
    ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين.
    وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق..
    فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم:
    " ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!!
    **

    عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان، ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة..
    وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم..
    واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه..
    **

    قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب..
    وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال:
    " يا رسول الله..
    أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟؟
    قال الرسول:
    " بل أمر أختاره لكم..
    والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم الى أمر ما"..
    وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان..
    هنالك قال:
    " يا رسول الله..
    قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة، الا قرى، أي كرما وضيفة، أ، بيعا..
    أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟؟
    والله ما لنا بهذا من حاجة..
    ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!!
    وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به..
    **

    وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا..
    والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية..
    ولبس المسلمون لباس الحرب.
    وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:
    لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت اذا حان الأجل
    وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين..
    وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه..
    وحمل المسلمون فتاهم العظيم الى مكانه في مسجد الرسول..
    ورفع سعد بصره الى السماء وقال:
    " اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه..
    وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..
    ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..!
    **

    لك الله يا سعد بن معاذ..!
    فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟؟
    ولقد استجاب الله دعاءه..
    فكانت اصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه..
    ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة..
    ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة..
    ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا، أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه..
    هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة.
    وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما..
    ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا، وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية..
    **

    أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ
    من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..
    جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الاعياء والمرض..
    وقال له الرسول:
    " يا سعد احكم في بني قريظة".
    وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت لبمدينة تهلك فيها بأهلها..
    وقال سعد:
    " اني أرى أن يقتل مقاتلوهم..
    وتسبى ذراريهم..
    وتقسّم أموالهم.."
    وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة..
    **

    كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل ساعة..
    وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا:
    " اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..!
    وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..
    فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:
    " السلام عليك يا رسول الله..
    أما اني لأشهد أنك رسول الله"..
    وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال:
    " هنيئا لك يا أبا عمرو".
    **

    يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:
    " كنت ممن حفروا لسعد قبره..
    وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب، شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد"..
    وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما..
    ولكن عزاءهم كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول:
    " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ"..

  5. #29
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد

    عبدالرحمن بن أبي بكر - بطل حتى النهاية

    هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه، وأبعاده..
    فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله ايمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين اذ هما في الغار..كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه، وأصنام قريش.!!
    وفي غزوة بدر، خرج مقاتلا مع جيش المشركين..
    وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين..

    وقبل أن يلتحم الجيشان، بدأت كالعادة جولة المبارزة..
    ووقف عبدالرحمن يدعو اليه من المسلمين من يبارزه..
    ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه، ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده.
    **

    ان العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه..
    اذا اقتنع بدين أو فكرة استبعده اقتناعه، ولم يعد للفكاك منه سبيل، اللهمّ الا اذا ازاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف، وبلا خداع.
    فعلى الرغم من اجلال عبدالرحمن أباه، وثقته الكاملة برجاحة عقله، وعظمة نفسه وخلقه، فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه.
    ولم يغره اسلام أبيه باتباعه.
    وهكذا بقي واقفا مكانه، حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته، يذود عن آلهة قريش، ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين..
    والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز، لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى..
    فأصالة جوهرهم، ونور وضوحهم، يهديانهم الى الصواب آخر الأمر، ويجمعانهم على الهدى والخير.
    ولقد دقت ساعة الأقدار يوما، معلنة ميلادا جديدا لعبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق..
    لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف. ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء، وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه، فاذا هو من المسلمين..!
    ومن فوره نهض مسافرا الى رسول الله، أوّأبا الى دينه الحق.
    وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله.
    لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم اسلام الرجال. فلا طمع يدفعه، ولا خوف يسوقه. وانما هو اقتناع رشيج سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه.
    وانطلق عبدالرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله، ورسوله والمؤمنين...
    **

    في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه، وفي أيام خلفائه من بعده، لم يتخلف عبدالرحمن عن غزو، ولم يقعد عن جهاد مشروع..
    ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثياته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل، والذي كان العقل المدبر لمسيلمة، كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله، فلما سقط محكم بضربة من عبدالرحمن، وتشتت الذين حوله، انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين..
    وازدادت خصال عبدالرحمن في ظل الاسلام مضاء وصقلا..
    فولاؤه لاقتناعه، وتصميمه المطلق على اتباع ما يراه صوابا وحقا، ورفضه المداجاة والمداهنة...
    كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته، لم يتخل عنه قط تحت اغراء رغبة، أو تأثير رهبة، حتى في ذلك اليوم الرهيب، يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد الشيف.. فكتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة، وأمره ان يقرأه على المسلمين في المسجد..
    وفعل مروان، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبدالرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال:
    " والله ما الاخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل"..!!
    لقد رأى عبدالرحمن ساعتئذ كل الأخطار التي تنتظر الاسلام لو أنجز معاوية أمره هذا، وحوّل الحكم في الاسلام من شورى تختار بها الأمة حاكمها، الى قيصرية أو كسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر..!!
    **

    لم يكد عبدالرحمن يصرخ في وجه مروان بهذه الكلمات القوارع، حتى أيّده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر..
    ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت الحسين وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم الى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية أن يأخذها بالسيف..
    لكن عبدالرحمن بن أبي بكر ظل يجهر ببطلان هذه البيعة، وبعث اليه معاوية من يحمل مائة ألف درهم، يريد أن يتألفه بها، فألقاها ابن الصدّيق بعيدا وقال لرسول معاوية:
    " ارجع اليه وقل له: ان عبدالرحمن لا يبيع دينه بدنياه"..
    ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشدّ رحاله قادما الى المدينة غادرها من فوره الى مكة..
    وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه..
    فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها حتى فاضت الى الله روحه،، وحمله الرجال على الأعناق الى أعالي مكة حيث دفن هناك، تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته..
    وشهدت اسلامه..!!
    وكان اسلام رجل صادق، حرّ شجاع...
    [[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[

  6. #30
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد

    عمران بن حصين - شبيه الملائكة

    عام خيبر، أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا..

    ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير، فآلى على نفسه ألا يستخدمها الا في كل عمل طيّب، وكريم..
    هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق.
    وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق، والزهد، والورع، والتفاني وحب الله وطاعته...

    وان معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا، ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي، ويبكي، ويقول:
    " يا ليتني كنت رمادا، تذروه الرياح"..!!
    ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب، فقلما كانت لهم بعد اسلامهم ذنوب..
    انما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر ادراكهم لعظمته وجلاله،وبقدر ادراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته، فمهما يضرعوا، ويركعوا، ومهما يسجدوا، ويعبدوا..
    ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
    " يا رسول الله، مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا دنيانا، وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى اذا خرجنا من عندك، ولقينا أهلنا، وأولادنا، ودنيانا، أنكرنا أنفسنا..؟؟"
    فأجابهم عليه السلام:
    " والذي نفسي بيده، لو تدومون على حالكم عندي، لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن ساعة.. وساعة.
    وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته، وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!!
    **

    وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة الى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله، وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به، ويستضيؤن بتقواه.
    قال الحسن البصري، وابن سيرين:
    " ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين"
    كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل، استغرق في العبادة، واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها..
    أجل..
    صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة، يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم..
    **

    ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين، بين فريق علي وفريق معاوية، لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب، بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، حاضنا قضية الاسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس:
    " لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت، أحبّ اليّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم، أخطأ أم أصاب"..
    وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا:
    " الزم مسجدك..
    فان دخل عليك، فالزم بيتك..
    فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله"..
    **

    وحقق ايمان عمران بن حصين أعظم نجاح، حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما، ما ضجر منه ولا قال: أفّ..
    بل كان مثابرا على عبادته قائما، وقاعدا وراقدا..
    وكان اذا هوّن عليه اخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة، ابتسم لها وقال:
    " ان أحبّ الأشياء الى نفسي، أحبها الى الله"..!!
    وكانت وصيته لأهله واخوانه حين أدركه الموت:
    " اذا رجعتم من دفني، فانحروا وأطعموا"..

    أجل لينحروا ويطعموا، فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا، انما هو حف زفاف عظيم، ومجيد، تزف فيه روح عالية راضية الى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين

  7. #31
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد


    أسيد بن خضير - بطل يوم السقيفة

    ورث المكارم كابرا عن كابر..
    فأبوه خضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء..
    وفيه يقول الشاعر:
    لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة
    لهبن خضيرا يوم غلّق واقما
    يطوف به، حتى اذا الليل جنّه
    تبوأ منه مقعدا متناغما
    وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ..

    فلما اصطفاه الاسلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه.
    وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم..
    **

    ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا، وحاسما وشريفا..
    فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله.
    يومئذ، جلس أسيد بن خضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو الى دين جديد لا يعرفونه..
    وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره"..
    وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام.
    وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير..
    وفجأهم أسيد بغضبه وثورته..
    وقال له مصعب:
    " هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته، و ان كرهته، كففنا عنك ما تكره"..؟؟
    **

    كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..
    فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:
    لقد أنصفت: هات ما عندك..
    وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته.
    ويقول الذين حضروا هذا المجلس:
    " والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم..
    عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!!
    **

    لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا:
    " ما أحسن هذا الكلام وأجمله..
    كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟
    قال له مصعب:
    " تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي"..
    ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها ، لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة..
    ومن ثمّ، قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنا اسلامه، مودّعا أيام وثنيّته، وجاهليته..!!
    كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه..
    وعاد الى سعد..
    وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله:
    " أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!!
    أجل..
    لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي..
    وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!!
    **

    وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا..
    انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره..
    ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير..
    لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة..
    اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى..
    فكيف السبيل لهذا..؟
    كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة..
    وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ..
    هنالك قال أسيد لسعد:
    " لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك"..
    وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين..
    ولما اقترب من المجلس لو يجد ضوضاء ولا لغطا، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم..
    هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير.
    ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!!
    **

    كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا..
    وكان ايمانه بفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما..
    وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:
    " لقد أحللتمومهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم..
    أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم..
    أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..
    سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام:
    أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟
    قال أسيد:
    وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟
    قال الرسول:
    عبدالله بن أبيّ!!
    قال أسيد:
    وماذا قال..؟؟
    قال الرسول:
    زعم انه ان رجع الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.
    قال أسيد:
    فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز..
    ثم قال أسيد:
    " يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكا"..
    بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة..

    وفي يوم السقيفة، اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاهه..
    وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه:
    " تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين..
    فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين..
    ولقد كنا أنصار رسول الله..
    وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته"..
    وكانت كلماته، بردا، وسلاما..
    **

    ولقد عاش أسيد بن خضير رضي الله عنه عابدا، قانتا، باذلا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه:
    " اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض"..
    ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق حبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعا.
    وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها..
    ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه..
    وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد..
    وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه..
    وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم..
    وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه:
    " نعم الرجل.. أسيد بن خضير"..

  8. #32
    شخصية بارزة الصورة الرمزية وافي الخصال
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    الدولة
    سكاكا .. الجوف
    المشاركات
    7,312
    معدل تقييم المستوى
    46

    رد: رجال حول الرسول { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } متجدد

    عمرو بن الجموح - أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة

    انه صهر عبدالله بن حرام، اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..
    وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة..
    سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين، أصحاب البيعة الثانية..
    وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للاسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..
    وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها، والتي تؤمّها جموع الناس..

    وعمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..
    فكانا يدلجان عليه ليلا، ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..
    ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه، ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:
    ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟
    ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..
    فاذا جاء ليل جديد، صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.
    حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!
    فلما اصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا، بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا، بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.
    واذا هو في غضبه، وأسفه ودهشه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا، وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت، يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده، محدثينه عن الاله الحق، العلي الأعلى، الذي ليس كمثله شيء.
    وعن محمد الصادق الأمين، الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي، لا ليضل..
    وعن الاسلام، الذي جاء يحرر البشر من الأعلال، جميع الأغلل، وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.
    وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..
    وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه، وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق، وتألق، وذهب عالي الجبهة مشرق النفس، ليبايع خاتم المرسلين، وليأخذ مكانه مع المؤمنين.
    **

    قد يسأل سائل نفسه، كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟
    وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم، حتى مع اسلامهم وتضحياتهم، من عظماء الرجال..؟
    ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..
    لكن في أيام خلت، كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!
    وحسبنا لهذا مثلا أثينا..
    أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..
    أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الأباب، كان أهلها جميعا: فلاسفة، وحكاما، وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!
    ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة، لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...
    **

    أسلم عمرو بن الجموح قلبه، وحياته لله رب العالمين، وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء، فان الاسلام زاد جوده مضاء، فوضع كل ماله في خدمة دينه واخوانه..
    سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:
    من سيّدكم يا بني سلمة..؟
    قالوا: الجدّ بن قيس، على بخل فيه..
    فقال عليه الصلاة والسلام:
    وأي داء أدوى من البخل!!
    بل سيّدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح..
    فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح، أي تكريم..!
    وفي هذا قال شاعر الأنصار:
    فسوّد عمرو بن الجموح لجوده
    وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا
    اذا جاءه السؤال أذهب ماله
    وقال: خذوه، انه عائد غدا
    وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله، أراد أن يجود بروحه وبحياته..
    ولكن كيف السبيل؟؟
    ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.
    وانه له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم رجال كالأسود، كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويثابرون على فريضة الجهاد..
    ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج، أ، يأمره به اذا هو لم يقتنع..
    وفعلا، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة، وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..
    بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.
    **

    وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له:
    " يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد..
    ووالله اني لأرجو أن، أخطر، بعرجتي هذه في الجنة"..
    وأمام اصراره العظيم أذن له النبي عليه السلام بالخروج، فأخذ سلاحه، وانطلق يخطر في حبور وغبطة، ودعا ربه بصوت ضارع:
    " اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني الى أهلي".
    والتقى الجمعان يوم أحد..
    وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..
    كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة، ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..
    كان يضرب الضربة بيمينه، ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى، كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه، ثم يصحبها الى الجنة..
    أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة، وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..
    وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم، يعرف كيف يختار الأصحاب، وكيف يربّي الرجال..!!
    **

    وجاء ما كان ينتظر.
    ضربةسيف أومضت، معلنة ساعة الزفاف..
    زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد، وفردوس الرحمن..!!
    **

    واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:
    " انظروا، فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين"..!!
    **

    ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد، تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين، بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.
    وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما، نزل سيل شديد غطّى أرض القبور، بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:
    " ليّنة أجسادهم..
    تتثنى أطرافهم"..!

    وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام، ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..
    فوجدهما في قبرهما، كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا، ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..
    أتعجبون..؟
    كلا، لا تعجبوا..
    فان الأرواح الكبيرة، التقية، النقية، التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها، قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل، وسطوة التراب

صفحة 4 من 12 الأولىالأولى ... 23456 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. دبلومة النجاح الوظيفي ( الرسوم 50 ريال . لمدة 4 أيام ) عن بعد
    بواسطة نواف بيك البريدية في المنتدى منتدى مجموعة نواف بيك البريدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 14-07-2012, 22:04
  2. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-09-2010, 16:00
  3. ليسوا ابطال القضية (بل رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه)
    بواسطة عبدالرحمن المشيخي في المنتدى منتدى حقوق المعلم والمعلمة
    مشاركات: 73
    آخر مشاركة: 06-02-2009, 14:01
  4. ابو اريج يدعم القضية 1000 ريال و600 ريال من الزملاء
    بواسطة ابو اريج في المنتدى منتدى حقوق المعلم والمعلمة
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 11-12-2007, 18:15
  5. لقد ساهمت مرتين --- 200 ريال ثم 210 --- ولو ما عندي عمارة كان فزعت بـالف ريال
    بواسطة صاحب المبادئ في المنتدى منتدى حقوق المعلم والمعلمة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-12-2007, 02:07

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •