لهذه الأسباب كثر المنظرون عن المناهج ومستقبل التعليم

عبد الله الصالح الرشيد

مما يلفت الانتباه ويدعو للتأمل والاعتبار بل الحيرة والدهشة أنه في أيامنا الأخيرة كثر المنظرون والمحللون عن المناهج والمقررات المدرسية والمباني المدرسية وظهرت فجأة دعوة غريبة تنادي بالترشيد في نفقات التعليم ومن ضمنها الاعتراض على إدخال بعض المواد الدراسية الضرورية في بعض المراحل التعليمية وفق مقتضيات العصر، هذه الطروحات والتحليلات والاقتراحات لوحظ لأول وهلة أن أكثر الذين امتشقوا أقلامهم وشمروا عن سواعدهم وأدلوا بدلوهم فيها هم في غالبيتهم من الفئة التي كانت في فترة ما وحتى الماضي غير البعيد على رأس العمل في الساحة التعليمية، بل إن بعض فرسان هذه الحملة كانوا من القياديين التنفيذيين في الجهاز الوزاري وانسحبوا على فترات من الميدان التعليمي لأسباب لا نعلم سرها الحقيقي ولا سبب توقيتها حتى الآن وإن تعلل وتذرع بعضها بدواعي التقاعد المبكر أو التفرغ للمشاريع الخاصة بمختلف الحقول أو من أجل التأمل في إرهاصات المستقبل أو لغرض استجماع القوة للعمل في مجالات أخرى أو انتظار مراكز كبرى.. لكن مصدر الغرابة في الأمر هو حضورهم الملفت المفاجئ الجماعي على صفحات الصحف والمجلات في الآونة الأخيرة من أجل التنظيم والتحليل والنقد لقضايا تعليمية أكثرها امتداداً لعهودهم أو بناء على خططهم السابقة أو رضاهم عنها عندما كانوا على رأس العمل، في إدارات التعليم مما جعلنا نتساءل هنا وبصريح العبارة ونقول: ماذا عملوا لهذه الأمور في تلك الفترة الطويلة الماضية؟ وبعضهم كان يملك الصلاحية في التقويم والتقييم خاصة وأن وزارة التعليم على سبيل المثال وهي في المقدمة كانت تعيش في تلك الفترة حقبة ذهبية وعهداً رغيداً بسبب الطفرة المادية حيث كانت ميزانيتها بأرقامها الفلكية قادرة على البذل والسخاء بلا حدود حتى في مشاريع عملاقة، والتي ونقولها بكل صراحة لم تجني منها كما رأينا إلا الدخول والسير في مشاريع بدائية محدودة شبه ارتجالية أو لنقل اجتهادية مثل مشاريع التغذية الطلابية التي قوامها المعلبات والمشروبات المستوردة التي لم تستمر طويلاً لتدني مستواها وقيمتها وعزوف طلابنا عنها، وكذلك مشاريع المدارس الجاهزة المؤقتة بمئات الملايين والتي أصيب معظمها بالعطب والتآكل والاحتراق في مطلع عمرها الافتراضي واستبدلت فيما بعد وحسب الإمكانات في عهد الوزير الرشيد بمدارس مسلحة حديثة.. فأين تلك الأفكار عن التركيز في التنفيذ؟ ولماذا لم نسمع نغمةلترشيد منهم بالذات إلا هذه الأيام؟ والأمور كما نلمس مرشدة تلقائياً عدا رواتب المعلمين والمعلمات وأجور مباني المدارس، أما عن المناهج والمقررات وتطويرها أو تنظيمها أو غربلتها فلم ألحظ بحكم عملي بالتعليم لأكثر من أربعين عاماً ومتابعتي لما يكتب عنها بالصحف والمجلات طيلة العقود الأربعة الماضية لم أجد أي تجاوب يذكر.. وآتي هنا بمثل بسيط ومتواضع عايشته بنفسي بحكم الخبرة والتجربة، فقد كتبت سلسلة مقالات في صفحة حروف وأفكار في جريدة الرياض قبل خمسة عشر عاماً تحت عنوان – مناهجنا ومقرراتنا بين التجديد والتعقيد وأتبعتها بمقالات أخرى أنا والكثير من أمثالي ومع ذلك لم نجد أي تجارب أو أثر يذكر حول تطوير المناهج في حينها اللهم إلا في سنواتنا الأخيرة حيث نجد بعض المسؤولين بعد تقاعدهم يطرحون الآراء ويقترحون الحلول ويطالبون بتطبيق ما كانوا يتحفظون عليه عندما كانوا على رأس العمل بوزارة التربية والتعليم وفي نفس الوقت يتحفظون الآن على ما كانوا يطالبون به لأنهم يريدون الآن احتكار تعليمه في مدارسهم التجارية الخاصة الأهلية، وهي أنانية مكشوفة من البعض، ونحن هنا لا نعترض على إبداء الرأي السديد في المناهج والمقررات وتطوير مخرجات التعليم للتفاعل مع متطلبات العصر وخطط التنمية وتكثيف التدريب الجاد للتأهيل للمهن والأعمال المختلفة التي يقوم بها الآن ملايين من الفئات الوافدة التي تستنزف وترحل سنوياً ما مقداره مائة مليار ريال أي نصف الدخل القومي السنوي يعني ما يعادل نصف ميزانية العام.. ونحن نعرف سلفاً أن إثراء البحث في هذه المواضيع الحيوية الجوهرية وتلاقح الآراء حولها سيكون له المردود الإيجابي إذا ما وجدت الآذان الصاغية الواعية واستخلصنا منها الدروس والعبر وتوفر لذلك مناخ من النوايا الصادقة والعزائم المخلصة لتنفيذها ولكن في رأيي المتواضع ومن وجه نظري من واقع متابعة طويلة في هذا المجال فقد لاحظت ولمست وآمل أن أكون مخطئاً أن ظهور البعض من هؤلاء المنظرين والمحللين بهذه الكثافة والصورة المفاجئة ومن هذه الفئة بذاتها ما هو إلا مع إحسان الظن بهم هو رغبتهم في الخروج من دائرة النسيان ورفع شعار – نحن هنا – حتى أن ظهورهم المفاجئ كما نعتقد لم يمكنهم من أخذ صور لهم تتناسب مع حالتهم العمرية الآن حيث لجأ الكثير منهم إلى صورهم القديمة الملونة التي تحكي وتمثل أيام النضارة والفتوة وتغفل الهوة العميقة بين الماضي والحاضر ولك لإبرازها في صدر مقالاتهم الجديدة، وفي الجانب الآخر نجد طرحهم لبعض القضايا التعليمية ورؤيتهم التي تفتقد إلى الحلول الإيجابية قد جردت مواضيعهم مما كنا ننتظره فلم تخرج في واقعها عن الآراء الكلاسيكية الخاوية الوفاض رغم أنها تحفل بالاستطرادات المكررة والمترادفات المتشابهة وتغرق بالتساؤلات العريضة وتطفح بعبارات الإثارة كما أن البعض منهم لا يكتفي بعرض وجهة نظره فقط بل يستنجد بالمؤيدين له من واقع ظهور المعقبين على مواضيعه وتأييدهم له بأفكاره وأكثرهم – إن صح التعبير من الحرس القديم – أقصد زملاء العهد، وهذا كما قلنا سابقا لا يخرج عن دائرة استجماع القوة والظهور للأضواء من جديد على أمل أن يحالفه الحظ بالنجاح إلى مركز مرموق في مواسم البركات وفي ربيع الخير وفرص الحضوة لعل وعسى أو في أضعف الأحوال وعلى منطق المثل الشعبي القائل – الحجر الذي لا يصيب يدوش – أو يلفت النظر. ومع تقدمهم في العمر وتخطي بعضهم حاجز الستين وتغير الظروف المادية وانكماشها وكثرة العروض والخيارات من الطاقات الجديدة المؤهلة فإننا نتمنى أن يحالفهم الحظ لنرى ماذا سيعملون للتعليم والنهوض بمسيرته وخاصة في المناهج والمباني وتطوير الأداء في الميدان التربوي تعليما وتوجيها وإدارة وهم يطالبون صراحة من واقع ما نقرأ بالترشيد والتحفظ على إدخال بعض المواد الدراسية في المدارس الحكومية كالإنجليزية في الابتدائية رغم فائدتها ونجاحها بمدارسهم الأهلية وحاجة الوطن والمجتمع إليها، وحتى لا أثقل على القارئ العزيز بقي في النهاية أن أقول إنني سقت هذه الملاحظات من واقع معايشتي عن قرب لما مرت به الوزارة في العقود الماضية من حالات مد وجزر خاصة وأنني أمضيت في الخدمة بسلك التعليم بالوزارة أكثر من أربعين عاماً من مدرس إلى مدير مدرسة إلى موجه وأخيراً مدير تعليم ولعل هذه الخدمة الطويلة تشفع لي في القبول كمواطن لإعطاء وجهة نظري والتي يصدق عليها الصح والخطأ كأي إنسان آخر. وفي الختام لا يسعني إلا أن أحيي وأبارك تلك المبادرات والخطوات الحثيثة التي تشهدها مسيرة التعليم في الآونة الأخيرة. والله ولي التوفيق.